DesignKSA

عَبَـــق‭ ‬الخمسينات‭ ‬ونوستالجيا‭ ‬مالـذّ‭ ‬وطـاب

من لما انطلب مننا كتابة مقالة عن فترة الخمسينات ، وكل واحد مننا رجع لكبار العيلة عنده حتى نسمع منهم ونستمتع بالحكايا الجميلة عن زمن «أهل أول».

في زمن يعجز عن حسنه البيان حيث الحنين والأمان والإيمان: زمن الخمسينات في منطقة الحجاز، أخذنا الحديث أولا إلى المطاعم ووجودها في تلك الفترة ، ولابد أن نأخذ بعين الإعتبار أن غالبية المطاعم لم تكن كالمطاعم الآن من عدة نواحي: إمكانية الجلوس فيها والخدمة المقَدمة للزبون من أطباق بورسالان وملاعق وشوك وجاهزية المكان كإضاءة وطاولات وكراسي وتكييف (أو وجود محل أصلاً بسبب وجود الطبّاخين). فقد تميَزت المطاعم بتقديم أجود المأكولات ذات حرفية عالية من نفس صاحب المطعم الذي كان يقف على طهو الطعام بنفسه ومعه عدد لابأس به من المساعدين و «الصبيان». وسنبدأ العرض من مدينة مكة حيث تلاقي الثقافات ونتدرج منها الى جدة والمدينة والطائف

بالرغم من أن النفوس توّاقة الى كل ماهو معاصر ومستقبلي إلاّ أننا نجد في البحث عن كنوز الماضي حنيناً جميلاً في أعين وأصوات كل من يرجع بذاكرته إلى الوراء ، مثل ما حكى لنا العم ناصر عن ما كانت عليه منطقة الحجاز في الخمسينات. فمن أوّل المطاعم في مكة والتي يتذّكرها أغلبية الكبار الآن مطعم بِيوم Biyoom وكان أوّل إفتتاح له بشارع المَنشِيّه ومن ثم إنتقل الى القرارة. كان هذا المطعم يقّدم الأكل الأندونيسي وكان معروفاً بين أهل مكة بنظافته وجودة مكوّناته. والجدير بالذكر، أن شارع المَنشية معروفٌ بالمطاعم ذات الطابع البلدي والتي تلّبي طلبات العوائل الحجازية من المطبق والكباب الميرو والكباب البلدي والشوربات. إضافةً إلى المطاعم البخارية التي كانت تجّهز الشوربة والرز البخاري. وأغلب روّاد المطاعم البخارية كانوا من أصحاب الدكاكين المجاوره لها و العمّال. ومن المحلات البخارية الشهيرة في ذلك الوقت محل «حاجي معروف» المشهور بالأكل البخاري والشعبي ، وكان مكانه حيث يتواجد برج الساعة حاليا.

أمّا حارة القرارة فقد عُرفت بالطبّاخين الماهرين أصحاب الصنعه، فيأتون إلى البيوت لإحياء الولائم ويبيتون فيها اذا كانت المناسبات ممتده لعدة أيّام. فقد يأتي بعضهم بكامل أدوات الطبخ من المواقد والقدور والملاعق الضخمة والبعض الآخر يستأجر كل إحتياجاته من محلاّت مخصّصه لإيجار كل مايتعلق بتجهيز الولائم. ومن الأسماء المكّيه المعروفة: أحمد العشّي وهو طبّاخ الملك عبد العزيز الخاص. و أوَان طبّاخ الأفراح ومحمّد فتيني والروّاس والباني. والأخير مازال محافظاً على صنعته لليوم وكانت بداياته في المسفله في مكة. ومن مشاهير معدي الحفلات في ذلك الوقت أيضا «هاشم حلواني» في منطقة أجياد ، وكان يلبي كل احتياجات تجهيز الحفلات واشتهر خاصة بالسليق بالإضافة لأكلات حجازية أخرى. ومن من تميز أيضا بالسليق في ذلك الوقت محل اسمه «الأبيض للسليق» في المسفلة ، وكان من أوائل محلات السليق في مكة.

وهناك نوع ثاني من الطبّاخين الذين تخصصوا في صنف واحد فقط مثل جميل الدرنه وكان متخصصاً في تحضير الطبق الحجازي المعروف بإسم «راس المندي». وينافسه في هذه الصنعه غزالي الحضرمي. وحامد القرشي الذي عُرف بتحضير أطيب الكبدة الجملي ومبارك باهويني الذي عُرف بأنه أوّل من قدّم أطباق الشوربة والتقاطيع إلى أهل مكة (حيث أن ثقافته الحضرميّة قد تاّثرت بجارتها من الثقافة الحبشية وهي أصل تلك الأطباق). وهناك العديد من الأسماء المكّية الأخرى ولكنهم تركوا الصنعه كمحمود المطّبقاني في منطقة العَباسَين وحسن ناظريه وعُرف بالمَقليه المكّاوية والسمبوسك، والزومان المعروف بتحضير الكباب البلدي، وحميد جعفر (الملّقب بأبو كلبشه) لبيع البليله، ومحمّد الكابلي (الملّقب ب اللحم) لأنه أوّل من عمل سمبوسك اللحم، والغصن للطرمبه والسمبوسك وحلى المشّبك (ولقبه التُفاحه)، وأيضاً فَرفَر للمعصوب.

ثالث منطقه معروفه بمطاعمها الأصيلة هي القشاشية بجوار الحرم الشريف. وأشهر مطعم في المنطقة كان «عم سرور» للشيخ محمّد سرور باسلوم ومشتركاً مع الشيخ عبدالله زعفراني الحلواني حيث كان المحل يعمل على فترتين: في الصباح يقدّم العم سرور السمبوسك والمطبّق والصوابع (السمبوسه السجاير)، وفي المساء يصنع العم عبدالله الحلويات وأستمّرت الشراكة لأكثر من عشر سنوات. ذاع صيت العم سرور الذي تفنّن في صناعة السمبوسك ففتح عدة فروع منها في حارة القرارة والفَلْق.

دعونا ننتقل الى منطقة الفَلْق والخَريق وعُرفت مطاعمها بأنها سَفَري (تيك أواي) وتمّيزت كموقع لأن الناس المسافرين شمالاً كانوا يمرّون بها ويشتروا طلباتهم من المطبق والفول والحلويات الهندية والتعتيمة الحجازية. كما تميّزت هذه المنطقه ببائعين الكباب الميرو والمبشور. ولانقدر نجيب سيرة الكباب الميرو بدون ما نذكر تركيبته اللي أهم عنصر فيها الدُخن والإبزار والثوم وتتقدّم مع سلطتها الفاخرة بالفول المدشوش (المقشّر) وكانت تتحضر على شكل طبقات: الطبقة الأولى الفول المدشوش وفوقها اللحم المفروم بعدين قطع البيض المسلوق وآخر شي البقدونس المفروم. أمّا المبشور فكان يعتمد على الثوم وينضاف عليه التَرْب (منديل من الشحم الخفيف على صدر الخروف) وتتقدم مختومة بسلطتين: سلطة الطحينه بالطماطم وسلطة الحُمَر بالكُرات والكزبرة الناشفه. لكن أكثر شخص أنعرف بالمبشور كان السيّد هاشم في سوق المعلاه فكان يِبشُر اللحم الضاني (ومن هنا التسمية) ويضيف لها التَرْب وهو أوّل من رّصها في الأسياخ المعدن. وبما أننا في المعلاه مانقدر نجيب سيرة هدي المنطقه من غير مانذكر الرائد في مجال السوبيا وهو محمّد أبو العروق.

خامس منطقة هي سوق الليل وأنعرفت بمطاعم المقادم أو الكوارع والأسماء المشهورة في هدي الصنعة محمّد مقادمي وصدقه براشي.

ونختم سيرة مطاعم مكة بذكر محلاّت صناعة الحلويات وكانت معظمها لعوائل منحدرة من أصول هندية زي بيت الحلواني وأبونار وتخصّص الأخير في الحلويات والتعتيمه الحجازية. ولا زالوا روّاد صناعة الحلويات الهندية الى الآن. ولايمكن أن نغفل عن أسرة عريقة تميّزت –ولاتزال- بالمخابز المعروفة وهم آل الكعكي من قبل عهد الخمسينات والى الآن.

وما نقدر طبعا نتكلم عن الحلويات بدون ما نذكر محل «شهاب بدرة» ، وكان مكانه في سوق الصغير والذي كان يقع في المنطقة الغربية من الحرم. واشتهر شهاب بدرة (ولا يزال) بالطحينية والمفروكة واللدو واللبنية. وكان مقابل محل شهاب بدرة محل «برنية» للفول وكان من أشهر محلات الفول في ذلك الوقت ، وكان أيضا في سوق الصغير. أما لو حبيت وقتها أن تأكل التميس بعد ما اشتريت الفول من برنية ، كان لازم تروح منطقة المصافي (حاليا منطقة فندق أجياد) كانوا وقتها بياعين التميس من الجالية اليمنية والبخارية يتمركزون هناك.

وقبل ما نترك مكة ، جلسنا مع عم فهد خياط ليحكي لنا عن طريقة الأكل والطبخ في تلك الفترة في مكة. وحكى لنا العم فهد أن الطبخ كان يتكون من «الايدام» مثل الفاصوليا والبامية والرجلة، بالإضافة للملوخية، وكان الطبخ مشابه كثيرا لطرق الطبخ المصرية. وهذه الخضروات كانت تزرع محليا في الطائف ومنطقة وادي فاطمة، بالإضافة للاستيراد من مصر وسوريا. ولم يكن هناك في ذلك الوقت الزيوت والسمن الجاهز، لكن الطبخ كان بالسمن البري أو عن طريق تسوية «لية الخروف» ليخرج منها الدهن لأجل الطبخ. وكان أول سمن معلب ينزل السوق ماركة «الشوكة والملعقة» من شركة فقيه.

وكان الناس في ذلك الزمن يعجنون الخبز بنفسهم ، لكن كانوا ياخدوا العجين للفرن في الحي عشان يخبزوه هناك، حيث كان قليل أنك تجد عائلات تشتري الخبز جاهز من المخايز.

واستطرد العم فهد في الحكاوي ليشرح لنا أنه لم يكن هناك ثلاجات او بوتاجازات ، ولكن كان الطبخ يتم على «دافور» وكان ما يفيض من أكل الغداء يأكلوه للعشاء بسبب عدم وجود الثلاجات. وكانت أول ثلاجة تنزل الأسواق هي ماركة «ليونارد» ، وكان سعر الثلاجة وقتها 1500 ريال وسعر البوتاجاز 500 ريال ، والذي لم يظهر الا عام 1385 هـ تقريبا. وتذكر حينها العم فهد مدير شركة فيليبس ذلك الوقت وهو الأستاذ / محمد جنة ، والذي كان يبيع الأجهزة المنزلية بالقسط للذي لا يستطيع تحمل شراؤها فكان الشاري يذهب للأستاذ محمد ويطلب منه أجهزة المنزل كلها ويسدده بالقسط.

ونخرج من حدود مكّة وننتقل إلى جارتها جدة.

أتميّزت معظم مطاعمها بأنها منظمّة أكثر من أي منطقة ثانية. غالبية المطاعم تجمعت في سوق الندا وكانت لعوائل جداوية مثل مطعم أبو زنادة ومطعم أبو الجدايل ومطعم فندق الحرمين وأكيد مطاعم الأسماك. ولو مشينا شوية كده حنوصل لـِ حارة اليمن وكان فيها طبّاخ معروف إسمه بكر تكروني، وفوّال الأمير لصاحبه عبدالقادر الأمير، وبانَعمه للهريسه (اللحم مع الحب). وحين عدنا للعم فهد خياط ليحكي لنا عن جدة ، ذكر لنا أنه في تلك الفترة لم تكن المطاعم الهندية مشهورة وكثيرة مثل الآن ، وكان هناك مطعم هندي واحد مشهور فقط ، ورغم أنه لا يتذكر اسمه ولكنه تذكر أن موقعه كان خلف البنك الأهلي الموجود في منطقة البلد ، وكيف كان يأكل هناك هو وأصدقائه قبل الذهاب لملعب الصبان بحي الثعالبة لمشاهدة مباريات الاتحاد.

أمّا بالنسبة للمدينة فالمطاعم فيها كانت شحيحة لأنه كان يعتبر «عيب» إنه العوائل تشتري من المطاعم مادام البيوت فيها «ستات يطبخوا». ولأن المدينة ملتقى طرق تجمع بين الشمال والجنوب فكان لابد من وجود مطاعم فيها عشان تلبي حاجة المسافرين. بالنسبه للطائف فكانت مصيف أهل مكة وأنشهرت بمطاعم اللحم المشوي على الصاج أو الحجر الحار والمدهون بالتَرْب والسليق الطايفي أكيد.

ختاماً للسيرة الموجزة يجب أن نذكر حقيقة وهو أن جميع أصحاب المطاعم كانوا يتميّزون بالأمانة في العمل والنظافة في المظهر «النزاكه» وإكرام اليتامى والأرامل وتلبية حاجات الأربطه وسد جوع الفقراء والمساكين فطرح الله تعالى البركة فيهم وفي تجارتهم وأسرهم. رحمهم الله تعالى أجمعين وبارك في أعقابهم وزادنا رحمة وفضلاً إنه برٌّ رحيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *