يحمل اسم سفر معان عدة، منها الارتحال والمغادرة والانتقال وترك المكان، وكذلك البحث عن دلالات جديدة في الفهم والرؤية والتعبير، فهو القلق والغربة ومحاولة التغيير، وإثارة الذكرى عند الآخرين.
وهناك معنى آخر للسفر، وهو السفر إلى خبايا وخفايا النفس البشرية، حيث الأسرار وعوالم المكبوت، والمسكوت عنه، عوالم تستدعي طرقاً للمغامرة والاكتشاف، ومن ثم الغوص في المجهول.
لقد هيمنت عروض الفيديو آرت على أعمال الفنانين المشاركين في معرض سفر بـ(الجولد مور) لهذا العام 2017م، ربما يعد هذا توجهاً مقصوداً في البحث عن المشهد المفقود في حياة فنية وثقافية تفتقد للسينما في السعودية.
فمن خلال آخر عمل يختم به الزائر جولته البصرية بمعرض سفر سنبدأ قراءتنا مع عمل الفنانة (دانه عورتاني) الذي هو عرض لفكرة تتعلق بالقضية النسوية، والتي تتلخص في مشهد الفيديو التركيبي الذي يحمل عنوان ( سافرت، ونسيتك، وقبل قليل ذكرت، ذكرت أني نسيتك، كنت أحلم).
فمثلاً يتضح من اسم العمل اهتمام الفنانة (دانة عورتاني) بفكرة السفر، الذي هو عنوان المعرض الكلي، دون أن تتناسى الفنانة فكرة المنمنمات والنقوش والزخرفة المتعلقة بالبيوت، فهي نقوش وزخارف مسافرة غير باقية، أصبحت مطموسة، مكنوسة من الذاكرة، والذي توضحه طبيعة كنس المرأة لهذه الأشكال الهندسية والزخارف في الغرفة التي تمثلتها بخامة الرمل الملوّن ويقترب الفنان (أحمد عنقاوي) من تجربة دانه عورتاني من خلال اشتغاله على الهندسة الزخرفية في محاولته لتأثيث الحيّز الفراغي، وذلك للتعبير عن الإنسجام والتجاور والتتابع بين الأشكال الخشبية، وتقليدية الرؤية في انتظامها. وتسافر (سارة عبده) عبر رسومها الصغيرة بالفحم والحبر الأسود من خلال أشكالها المتكررة الشبيهة برسوم السكتشات السريعة لأشكال وكائنات غريبة، لتسافر بها إلى عوالم الذات، مشكلة
كما عرضت الفنانة (مروة المقيط) تجربة نسائية، عبر عرضها البصري الذي تكشفه مشاهد الفيديوآرت، حيث تواجه الشخصية الأنثوية حياة التناقض بين المغادرة والوصول، وسلطة الظلام المهيمن من خلال تطرقها لظلامية الحياة، وصعوبة التحرك في الفضاء المكاني الذي أصبحت تسيطر عليه قوانين البشر، إنها تعبير عن القيد الاجتماعي، فالملامح المكانية التي يتركها المكان على المرأة كمشاعر الوحدة والخوف والرهبة، ومن التردد والقلق والحيرة، والإحساس بالاختناق..
وهذا العمل لـ(مروة المقيط) يذكرنا بمشروع الفنانة الإيرانية (شيرين نشأت)، وبخاصة في تناولها للمشاهد البصرية التي كانت تمثل فيها المرأة دور البطولة، والتي ظهرت في فيلم (نساء الله)، وفي معارضها التي عرضتها في أمريكا عن قمع المرأة الإيرانية وسلطة الخطاب الذكوري.
واشتغلت الفنانة (بيان عبداللطيف) على فكرة أعواد الثقاب، من خلال الصور الفوتوغرافية، وذلك كنوع من التعبير عن المرأة والرجل، الذي تصوره في ضدين هما: الأسود والأبيض، متناولة قضية نسوية مهمة تتعلق بالمسكوت عنه، ألا وهو الشرف.
كما ركز الفنان (عبدالله العثمان) على فكرة الصوت في عمله الفني الذي أسماه (رسائل)، فالعمل مكون من ست قطع، مدتها كل واحدة
منها 3 دقائق. وهي فيها سفر لحظوي عبر زمن الصوت، والتي يشعر بها الزائر من خلال تنقله بين قطع الأعمال الستة.
ومن جهة أخرى عرض الفنان (عبدالله العثمان) تجربة تقوم على التغليف الخارجي للأشكال المجسمة أسماها (معلق) وهي التي عرضها في حي البلد حيث البيوت التراثية القديمة.
استخدم العثمان خامة القصدير، وهي خامة تملك مرونة وسهولة في الاستخدام بجانب لونها الفضي، وهذا اللون الفضي له أصالة تاريخية، واتصال روحي مع الأشياء القديمة الغابرة، ولهذا غطى العثمان جدار بيت الخنجي الكبير بالبلد بلون له تاريخه ولمعانه الذي تميزت به طبيعة القصدير.
وفلسفة تغطية الأشياء تكمن في الإخفاء والتغييب وفي محض الرؤية المعاكسة للمعتاد، التي تحاول عاجزة عن إدراك التساؤل الجمالي للشيء، وهي فلسفة ظهرت بدقة في مشاريع عدة احتضنها الفنان العالمي (خريستو) الذي غطى البيوت والقصور والجسور بالقماش مثل: متحف الفن المعاصر في شيكاغو، وجسر بونت نيوف بباريس، وبعض الجسور بروما، كما غطى بالنايلون أشجار الغابات على امتداد مسافات شاسعة.
واتجه الفنان الخطاط (ناصر السالم) إلى الكلمة العربية عبر بناءها الشكلي ليوافق بين ظاهرها اللفظي ومعناها الخفي، ليجمع في ذلك بين الحرف في الأحاديث والأمثال مع فضاءات بصرية مجسمة يتم تكوينها عبر خامة صلبة كالأسمنت.
ففي عمله البنائي»يتطاولون في البنيان»، التي هي مأخوذة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يحاول من خلالها السالم أن يكمل مشروعه السابق في تجاربه وأعماله المرتبطة بفن الخط و الحرف العربي، فهو يعيد كتابتها من جديد عبر خامة البناء والصب لتصبح حقيقة من خلال تجسيد المعنى، ليس فقط كلمات وعبارات مكتوبة وإنما لتصبح أشكالاً بصرية ملموسة لها صورتها الجمالية.
ويجيء عمل الفنانة (زهرة الغامدي) الذي هو عبارة عن المنازل والبيوت القديمة مستخدمة في ذلك التراب والماء وقطع القماش البالي وقطع صغيرة من الخيوط، لتظهر صورة سفر الذكريات عبر المكان حيث الشوارع الضيقة والممرات والأزقة التي تصورها وضعية التجاور والتداخل، التي هي تعبير عن الحياة القديمة في القرى، حيث الصلة القوية والصفاء والنقاء بين الناس عكس ما هو عليه أهل المدن، وهي كذلك أشكال هندسية للبيوت الطينية وتحديداً المجاورة للمزارع والسدود في القرى الريفية بالسعودية، فهذه الأشكال الطينية تعبير عن رحيل المكان وسفره من ثقافة القرية إلى ثقافة المدينة.
وعلى مستوى الحوادث ونقل المعلمات يجيء اهتمام الفنانة منال الضويان بأزمة المرأة السعودية من خلال مشاكلها مع وسائل النقل والمواصلات، فالمرأة في السعودية كما هو معروف لا تقود سياراتها، فهي تذهب إلى عملها مع سائق أو مع زوجها أو أهلها، إنه سفر في الحياة الصعبة لتعرض بعض نقل المعلمات في الطرق السريعة إلى الأماكن البعيدة النائية إلى حوادث اصطدام، وعرضة للأخطار الرهيبة، تناولته الفنانة مستندة على صور وقصاصات من الصحف والجرائد السعودية المتضمنة لأخبار الحوادث وصورها وتقاريرها وإحصائياتها.
وهؤلاء الفنانين أمثال: زهرة الغامدي، وعبدالله العثمان، و ناصر السالم، و دانه عورتاني، ومحمد الفرج، ومعاذ العوفي، تجمعهم فكرة المكان، لأن السفر كفكرة أساسية لا يبدأ إلا من المركز المكاني.
كما يجمع بعض الفنانين بين فكرة (الصوت) وتردد صداه في الحيّز المكاني، وهذا يظهر واضحاً عند بعض الفنانين أمثال: ماجد عنقاوي، وعبدالله العثمان، و ريم الناصر، ومهند شونو. فهم جميعاً يسافرون عبر فضاء الفن المفاهيمي والتجريب البصري والصوتي والضوئي والإيحاءات والدلالات الأدائية للفكرة.